٢ ذو الحجة ١٤٤٤هـ الموافق ٢١ حزيران ٢٠٢٣ م
(لقراءة المقال الثاني)
إنَّ أصول الدَّين هي مجموعة من القواعد العقائديّة المُستَنِدَة على الأدلّة العقليّة والنقلية الصحيحة ، والتي يتقوم بها مَنهج الدِّين الإسلامي في منظومته ، اعتقاداً وطريقاً ، و من أهمها معرفة الله تعالى وتوحيده وصفاته وعدله ونبوة الأنبياء والإقرار بهم ، وخاصةً خاتمهم النبي الأكرم مُحَمّد ، صلى الله عليه وآله وسلّم ، وإمامة الأئمة الاثني عشر والمَعاد.
قال العلاّمة الحلّي : ( أجمعَ العلماءُ كافةً على وجوب معرفة الله تعالى ، وصفاته الثبوتية والسلبية ، وما يصح عليه وما يمتنع عنه والنبوة والإمامة والمعاد )، .
والمقصود بمعرفة هذه الأصول الاعتقاديّة هو ( ركوزها في اعتقاد المُكلَّف ، بحيث إذا سألته عن شيءٍ مّما ذُكِرَ أجاب بما هو الحقُّ فيه ، وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارَفَة على ألسنة الخواص – ويكفي في معرفة الله تعالى – الربّ التصديق بكونه موجوداً ، واجبَ الوجود لذاته ، والتصديق بصفاته الثبوتيّة الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ، ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث ، وأنّه لا يصدر منه القبيح فعلاً أو تركاً، )،
وهكذا الحال في معرفة النبي الأكرم ، من حيث معرفة شخصه بالنسب المعروف المُختصّ به ، والتصديق بنبوّته وصِدقه ،والإقرار بما جاء به ، من بيان أحوال المبدأ والمَعاد ، كالتكليف بالعبادات وسؤال القبر وعذابه ، والمَعاد الجسماني والحساب والجزاء ، وكذلك ضرورة معرفة الأئمة المعصومين ، عليهم السلام نسباً ونصباً، و الاعتقاد بأنّهم أئمةٌ يهدون بالحقِّ ، ويجب الانقياد إليهم والأخذ منهم شرعاً.
وإنّما سُمِّيَتْ بأصول الدين لأنّ سائر الفروع العباديَّة من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وغيرها ، تبتني وتتوقف عليها اعتقاداً ، حيث تتوقّف الفروع توقفاً ضروريّاً على ثبوت المُرسِّل ، اللهُ تبارك وتعالى، وصفاته وعدله وصِدْقِ رسوله.
والوجوب المطلوب هنا هو الوجوب العقلي العيني الثابت في ذمة كُلّ فردٍ من المُكلَّفين من الناس عامةً دون استثناءٍ ، أي أنَّ هذا الوجوب العيني لا يسقط بقيام البعض به عن البعض الآخر التارك لمعرفة أصول الدِّين ، وانطلاقاً من ذلك الوجوب العيني يترشح أمرٌ آخرٌ ، وهو عدم وجوب التقليد لأهل الاختصاص والمعرفة في أصول الدِّين أو غيرهم ، بل الواجب تحصيل اليقين من قبل نفس المُكلَّف بالتفكّر والدليل والعِلم والإذعان بها جزما .
وبعد ضرورة تحصيل الاعتقاد و اليقين بوجوب معرفة أصول الدِّين يجب أن تكون هذه المعرفة بالنظر والاستدلال العقلي ، لأنّ المعرفة هنا ليست بديهيّة –أي ليست متيسِّرَة لكلّ أحدٍ ، إذ لو كانت كذلك لكانت معرفة أصول الدِّين بديهيّة للكل ، ولما اختلف الناس في المعرفة العقائدية بأصول الدِّين ، لأنّ المعلوم بالبداهة لا يختلف فيه العقلاء ، بل يحصل العِلم به بأدنى توجه والتفات من العقل والإحساس به ، كالحكم بأنّ الواحد نصف الأثنين وأنّ النار حارة وغير ذلك .
و وجه عدم جواز التقليد في أصول الدّين عقلاً ، لأنَّ التقليد هو قبول قول الغير من غير دليل يَطّلع عليه المُقَلّد – المُتّبِع – والمطلوب في أصول الدّين هو تحصيل اليقين إيماناً وإذعاناً ، والعِلم بالدليل عقلاً ونقلاً ، وقد وضّح ذلك العلاّمة المقداد بن عبد الله الأسدي السيوري الحلي ،وهو أمرٌ مهمّ جِدّاً ينبغي التنبه له ، حيث قال:
(ويجب العلم واليقين بأصول الدِّين الخمسة ،لأنَّ الإنسان المُكلَّف إذا رأى الناس مُختلفين في الاعتقادات ، فإما أن يأخذ بجميع اعتقاداتهم فيلزم منه جمع المتنافيات – لأنّ الناس مختلفون في أفكارهم وعقائدهم الدينية ، فمنهم مؤمن ومنهم كافر – والجمع بين المتنافيات غير ممكن عقلاً – وإما أن يأخذ الإنسان المكلّف بالبعض من الاعتقادات الموجودة عند الناس بلا مرجح عقلي فيلزم الترجيح بلا مرجح ، وهو محال عقلاً ، وإما أن يأخذ بالبعض مع المُرجح ، وليس هو إلاّ العلم ،لأنّ الترجيح مع الظن حاله حال الشك هنا ،و إما أن لا يعتقد شيئاً فهو غير جائز – لوجوب المعرفة بالله ، وبذلك يبطل التقليد في الاعتقادات ،لأنّ التقليد في أصول الدِّين كالشك ، والشاك في أصول الدِّين كافر ، بل الظن في أصول الدِّين كذلك ، فإنَّ الظنّ لا يُغني من الحقِّ شيئا ،وهذا هو المشهور والمُجمعُ عليه عند الإماميّة ),.
وأما من الجانب الشرعي النقلي فهو ما ورد عن الأئمة المعصومين ،عليهم السلام ، من التأكيد القطعي واليقيني على وجوب معرفة الله تعالى وأصول الدّين الحقِّ.
فقد نقل الشيخ الأعظم المفيد (قد) في كتابه الإرشاد ، ما نصه:
( إنّ مما حُفِظَ عن الإمام الصادق ، عليه السلام ، في وجوب المعرفة بالله تعالى وبدينه قوله:
وجدتُ عِلمَ الناسِ كلهم في أربع : أولها أن تعرف ربّك – والثاني أن تعرف ما صنع بك –والثالث أن تعرف ما أراد منك – والرابع أن تعرف ما يُخرِجَك من الدِّين – ثم قال الشيخ المفيد في شرحه لتلك الكلمات الجامعات المانعات : وهذه أقسام تُحيط بالمفروض من المعارف الإلهية ، لأنّ أول ما يجب على العبد معرفة الله تعالى ، فإذا علِمَ أنه له إلها وجبَ أن يعرف صنعه إليه فإذا عرف صنعه إليه عرف به نعمته ، فإذا عرفَ به نعمته وجب عليه شكره ، فإذا أراد تأدية شكره وجب عليه معرفة مراده ليطيعه بعقله ، وإذا وجبت عليه طاعته وجب عليه معرفة ما يخرجه عن دينه ليتجنبه فيخلص به طاعة ربه وشكر إنعامه),.
مرتضى علي الحلي
مصادر البحث:
١– النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، المقداد السيوري ،ص17، ط ، بيروت.
٢–فرائد الأصول ،الشيخ مرتضى الأنصاري ، ج ١ ،ص ٥٦٥، ط ،قم.