نص الكلمة الثّانية في مراسم استبدال راية قبة مرقد الإمام الحسين عليه السّلام في محرّم الحرام ١٤٤٧ هـ / ٢٠٢٥ م

لقطة شاشة من قناة الموقع الرّسمي للعتبة الحسينية المقدسة على اليوتوب

The-14

٢ محرّم الحرام ١٤٤٧ هـ الموافق ٢٨ حزيران ٢٠٢٥ م

في أجواء يسودها الحزن وتحت أنظار الآلاف من الزّائرين والمعزّين، شهدت مدينة كربلاء المقدسة مراسم استبدال رايتي قبة مرقد الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس عليهما السّلام إيذانًا ببدء شهر محرّم الحرام لعام ١٤٤٧ هـ / ٢٠٢٥ م، وافتتاح موسم الأحزان الذي يستذكر فيه المسلمون حول العالم ذكرى ملحمة الطّف الخالدة.

وفي هذه المناسبة السنوية التي تحظى بمكانة روحية عميقة لدى أتباع أهل البيت عليهم السّلام، ألقى سماحة الشّيخ عبد المهدي الكربلائي، المتولي الشّرعي للعتبة الحسينية المقدسة وممثل المرجعية الدّينيّة العليا في كربلاء المقدسة كلمتين مهمتين.

وفيما يلي نص الكلمة الثّانية التي ألقاها سماحته خلال هذه المراسم:

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله قريب الرحمة بديع الحكمة حسن البلاء نافذ القضاء الّذي اصطفى أوليائه على جميع خلقه وخصهم بجسيم بلائه ليمتحن صبرهم ويضاعف أجرهم والصّلاة والسّلام على سيّد أنبيائه ورسله أبي القاسم محمد وعلى آله الطّيبين الطّاهرين.

أيُّها الأخوة المؤمنون، أيَّتُها الأخوات المؤمنات أعظم الله تعالى أجورنا وأجوركم بمصاب سيّد الشّهداء وأهل بيته وأصحابه الكرام.

هل هلال شهر محرّم الحرام شهر الأحزان في هذا العام ( نحن دخلنا الآن في عام ١٤٤٧ هجرية وعام ١٤٤٦ قد انقضى ) متزامنًا مع أحداث مؤلمة وقعت في منطقتنا وأوضاعًا خطيرة تمر بها وبهذه المناسبة أُشير إلى عدة أمور

أولًا:

لقد أوصى أئمة أهل البيت عليهم السّلام بعد فاجعة الطّف بإحياء تلك الفاجعة الكبرى واستذكارها باستمرار بالنّظر إلى ما بلغه أعداء العترة الطّاهرة عليهم السّلام فيها من أعلى درجات الإجرام بحقهم وهتك حرماتهم.

وفي المقابل مستوى التضحية التي بذلها سيّد الشّهداء عليه السّلام وأهل بيته وأصحابه في سبيل إحياء الدّين ومقارعة الظّلم وإماتة البدع، حتى أصبح موقفهم المثل الأعلى لجميع القيم الإلهية والإنسانية النّبيلة، تُحرك العقول وتهز الضّمائر وتوقظ القلوب وتحيي النفوس وتثير العواطف.

والشّعائر الحسينية في جوهرها ( نلتفت أيُّها الأخوة والأخوات، علينا أن يكون لنا الوعي والبصيرة بحقيقة الشّعائر الحسينية ونسعى إلى العمل بهذه الحقيقة ) نوع عبادة يراد بها التّقرب إلى الله تعالى بالمواساة مع نبيه المصطفى وآله الأطهار فيما حل بهم في فاجعة الطّف فلا بد من أن ننطلق فيها من دوافع إلهية محضة ونحافظ على كونها طريقًا إلى الله تعالى.

ونكون على وعي وبصيرة بحقيقتها الإلهية وأهدافها السّامية التي ضحى من أجلها الإمام الحسين عليه السّلام وأهل بيته وأصحابه الكرام.

أيُّها الإخوة المفجوعون بمصاب سيّد الشّهداء عليه السّلام، إنّ إقامة المآتم وإظهار الحزن والأسى بمختلف أساليبه المعهودة عند محبي أهل البيت عليهم السّلام وإن كانت هي المرتكز الأساس في إحياء المبادئ والأهداف الحسينية ولكنّها تبقى طريقًا لابد من أن يوصل سلوكه إلى جوهر تلك المبادئ والأهداف وهو إحياء معالم الدّين وفرائضه وسننه فقد قال الإمام الحسين عليه السّلام في طريقه إلى كربلاء معبرًا عن الأهداف الإلهية في خروجه: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.

فهذا الواجب الإلهي هو من أعظم الواجبات الدّينية وأفضل الطاعات به تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتصلح الأمة وتحل المكاسب فحافظوا على أداء هذا الواجب العظيم في بيوتكم وأسواقكم ومجالسكم ومؤسساتكم ولا يتوهم أحد أنّه مهمة رجال الدّين فقط، بل هو واجب الجميع، كلٌّ بحسب موقعه وظرفه ولكن لا بد من مراعاة شروطه والالتزام بضوابطه وعدم التّخلف عنها وإلّا أدى ذلك إلى نتائج معكوسة أحيانًا.

ثانيًا:

لا شك في أنّ السُّنة الإلهية في هذه الحياة قائمة على الابتلاء والاختبار لتمحيص المؤمنين وتمييز المجاهدين الصّابرين عن غيرهم في صراع مستمر بين الحق وأنصاره والباطل وأعوانه إلى قيام السّاعة وستبقى ثورة الإمام الحسين عليه السّلام نبراسًا يبصرنا بما علينا أن نقوم به في هذا الصراع والتقابل بين نهجين نهجه عليه السّلام في الدّفاع عن الحق والعدالة والحرية والكرامة الإنسانية وحفظ النّاس من الضّلال والفساد والانحراف والدّفاع عن المستضعفين والمظلومين الذين لا يجدون ناصرًا إلّا الله تعالى والنهج الآخر المبني على التعدي والظّلم والطّغيان والانحراف عن الحق.

وما شهدته منطقتنا ولاسيما في العام المنصرم ( نحن الآن دخلنا في عام ١٤٤٧، ١٤٤٦ الذي مضى) من أحداث معروفة إنّما يمثل معركة من المعارك المحتدمة بين جبهة تدافع عن الحق والعدالة والخير وجبهة يتمثل فيها الظّلم والطّغيان والشّر بأبشع صورها بحيث فاق كل الحدود المتصورة.

وإذا كانت هذه المعركة التي لا تزال قائمة قد استنزفت دماء غزيرة وعزيزة وأدت إلى الكثير من الأذى والضّرر بإخوتنا وأخواتنا تشريدًا وتجويعًا وتخريبًا لبيوتهم وممتلكاتهم وغير ذلك، وقدم فيها أصحاب الحق تضحيات جسيمة قلّ نظيرها، إلّا أنّ ذلك كله لا ينبغي أن يؤدي إلى الشعور بالضّعف والانكسار، بل لا بد في كلّ الأحوال من تقوية العزائم للمضي قُدمًا في سبيل تدارك الاخفاقات الواقعة والتّغلب على نقاط الضّعف بأساليب صحيحة بعيدة عن الأوهام والتّمنيات.

ثالثًا:

إنّ المعركة بين الحق والباطل تحتدم حينًا وتهدأ احيانًا، وتشهد صولات وجولات على مر الزّمان ولا بد لأهل الحق من أن يتبصّروا ويتثبتوا ولا ينخدعوا ببعض المظاهر المزيفة والشّعارات الرّنانة وليأخذ أولياء الأمور العبر والدروس ممّا وقع من مآسٍ تجلّ عن الوصف وخسائر كبرى لم يحدث مثلها منذ زمن بعيد.

رابعًا:

إنّ الظروف الحالية التي تمر بهذه المنطقة بالغة الخطورة والشّعب العراقي ليس بمنأى من تداعيات الصّراع القائم فيها عاجلًا أو آجلا.

فلا بد مِن أن يتنبّه العراقيون إلى ذلك ويتسلحوا بالوعي والبصيرة في التّعامل معها ويهتموا بما يصلح أمورهم بعيدًا عن بعض المظاهر الخداعة، وليعلموا أنّهم ما لم يسعوا بجد في بناء بلدهم على أسس صحيحة فإنّ مستقبلهم لا يكون أفضل من حاضرهم.

كما أنّ على من بيدهم الأمور أن يتقوا الله ويحكّموا ضمائرهم ويراعوا في قراراتهم وتصرفاتهم مصلحة شعبهم وبلدهم والمنطقة كلها لأنّ مصالح شعوبها مترابطة ومتشابكة.

خامسًا:

إنّ الشّعب العراقي الكريم الذي ضحى لسنوات طويلة في سبيل التّخلص من الاستبداد وإرساء آليات دستورية تضمن التّداول السّلمي للسلطة وعدم العود به إلى عهد الظّلم والقهر وسحق الكرامة الإنسانية سيبقى عازمًا على الحفاظ على هذه المكتسبات بكل قوة وعدم الرّجوع إلى الوراء على أي حال وإن كان يشعر بمرارة الأخطاء الكبيرة والاخفاقات المتوالية والسّلبيات المتراكمة للكثيرين ممن تسنموا مواقع المسؤولية خلال العقدين الماضيين.

ولكن يبقى الأمل قائمًا في تصحيح المسار وتدارك ما فات ولا يكون ذلك إلّا وفق ما أشارت إليه المرجعية الدّينيّة العليا في بيان سابق لها حيث صرحت بالقول: إنّه ينبغي للعراقيين ولا سيّما النّخب الواعية أن ياخذوا العبر من التّجارب الّتي مروا بها ويبذلوا قصارى جهدهم في تجاوز إخفاقاتها ويعملوا بجد في سبيل تحقيق مستقبل أفضل لبلدهم ينعم فيه الجميع بالأمن والاستقرار والرّقي والازدهار، وذلك لا يتسنى من دون إعداد خطط علمية وعملية لإدارة البلد اعتمادًا على مبدأ الكفاءة والنّزاهة في تسنم مواقع المسؤولية ومنع التّدخلات الخارجية بمختلف وجوهها وتحكيم سلطة القانون وحصر السّلاح بيد الدّولة ومكافحة الفساد على جميع المستويات.

نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدي الجميع إلى ما فيه خير ديننا ودنيانا والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

0 Shares