قابس… حين يختنق البحر برائحة الفوسفات

قابس/ Gabes 2021. Wikimedia Commons/ CC-BY-SA-4.0

The-14

٢ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ الموافق ٢٥ تشرين الأول ٢٠٢٥ م

في أقصى الجنوب الشرقي لتونس، تختنق مدينة كانت تُسمّى جنة الدنيا. قابس، التي جمعت بين الواحات الخضراء والبحر الفيروزي، أصبحت اليوم عنوانًا للخذلان البيئي والتاريخي؛ جريمة ممتدة من عهد الاستعمار الفرنسي إلى حاضر تُحكمه الحسابات الاقتصادية واللامبالاة السياسية.

من واحة الحياة إلى أرض الموت البطيء

تاريخيًا، كانت قابس وجهًا من وجوه الجمال التونسي الأصيل، بواحاتها الساحلية النادرة التي يلتقي فيها النخيل بالبحر، وتزدان أطرافها بأشجار الزيتون والرمان في لوحة لا مثيل لها. لكن هذا الجمال بدأ يذبل منذ عام ١٨٨٥، حين اكتُشفت رواسب الفوسفات في تونس تحت الاستعمار الفرنسي.

فرنسا، التي لم تكن ترى في تونس سوى مستعمرة تخدم اقتصادها، منحت تراخيص لشركاتها لاستغلال الفوسفات وبناء سكك حديدية وموانئ لتصديره نحو أوروبا. لم يكن الإنسان أو البيئة في حسابها.

لقد أسس الاستعمار بنية استغلالية خالدة: يستخرج الثروات، ويترك الشعب والتراب يواجهان الخراب. وهكذا بدأت رحلة الجنوب مع التلوث والتهميش.

ميلاد المجمع الكيميائي وبداية المأساة

بعد الاستقلال، ورثت تونس هذا الإرث الصناعي الاستعماري، وبدل تفكيكه، عمّقته. ففي عام ١٩٧٢، تأسس المجمع الكيميائي التونسي (GCT) في قابس لمعالجة الفوسفات القادم من قفصة وتحويله إلى أسمدة تُصدّر للعالم.

قُدِّم المشروع كرمز للتنمية الوطنية، لكنه سرعان ما تحوّل إلى مصدر موت يومي.

فحسب تقارير بيئية، يُلقي المجمع يوميًا ما بين ١٤ و ١٥ ألف طن من مخلفات الفوسفوجيبس غير المعالجة مباشرة في البحر، وهي مواد تحتوي على عناصر مشعة وسامة مثل الراديوم والرادون.

هذه النفايات دمّرت النظام البيئي البحري، وحوّلت خليج قابس إلى منطقة ميتة لا تصلح للصيد أو السباحة أو حتى المشاهدة.

حكاية الناس… والهواء الذي صار عدوًا

لم يعد سكان قابس يرون البحر كما كان. اللون الأزرق اختفى خلف طبقة رمادية كثيفة، ورائحة الكبريت صارت جزءًا من الحياة اليومية.

الأطفال يولدون وسط الغازات، والكهول يشيخون مبكرًا، والأمراض التنفسية والسرطانات أصبحت قدرًا جماعيًا.

بعد ثورة ٢٠١١، انكسر حاجز الصمت، وخرجت حركة أوقفوا التلوثإلى العلن، مطالبة بإنقاذ ما تبقّى من المدينة.

ووعدت الحكومة عام ٢٠١٧ بنقل الوحدات الأكثر خطورة خارج قابس، لكن الوعد بقي حبرًا على ورق.

ثم جاء انفجار ٢٠٢١ الذي أودى بحياة ستة عمال ليكشف هشاشة المنشأة وخطورة المواد المخزّنة فيها، لكن حتى تلك الفاجعة لم تحرّك إرادة سياسية جادّة للإصلاح.

الاقتصاد في مواجهة الحياة

لكن الدولة، الغارقة في أزماتها الاقتصادية، ترى في الفوسفات موردًا حيويًا لا يمكن التخلي عنه.

فهي تخطط لزيادة إنتاجه من أقل من ثلاثة ملايين طن سنويًا إلى ١٤ مليون طن بحلول عام ٢٠٣٠، ما يعني أن الكارثة البيئية مرشحة للتفاقم.

ومع تزايد الاحتجاجات في عام ٢٠٢٥، خاصة بعد إصابات الاختناق الجماعي بين الأطفال، ردّت السلطات بالقمع والاعتقالات، بدلًا من معالجة أصل المشكلة.

قال أحد سكان المدينة باختصار مؤلم:

نحن لا نطلب رفاهية… نريد فقط أن نتنفس.

جذور الصمت والتواطؤ

خلال عقود ما قبل الثورة، كان الحديث عن تلوث قابس جريمة سياسية. الناس تبتلع غضبها بصمت خوفًا من النظام الذي لا يسمح بالاعتراض.

المجمع وفّر بعض الوظائف، لكنه كان أيضًا وسيلة لشراء الصمت: من يشتكي يُذكّر بأنه “يأكل من خير المصنع”.

أما اليوم، فالرئيس قيس سعيّد يعترف بأن البيئة في قابس “دُمّرت بسبب قرارات إجرامية”، لكنه يكتفي بتصريحات دون إصلاحات حقيقية، بينما يواصل البحر ابتلاع سمومه اليومية.

قابس… ضمير وطن في اختبار

قابس ليست قضية بيئية فقط، بل مرآة للعدالة في تونس.

فهي تطرح سؤالًا وجوديًا:

كيف تتحول الثروة إلى لعنة؟

وكيف يصبح الإنسان ضحية لما يُفترض أنه تنمية وطنية؟

تختنق المدينة اليوم بين صمت الدولة وشراهة الشركات، بين ذاكرة الواحات وحاضر الرماد.

لكن في أصوات الشباب الذين يهتفون نريد أن نعيش، وفي الأمهات اللواتي يحمين أبناءهن من الغازات، ما زالت إرادة الحياة أقوى من الموت.

إن إنقاذ قابس ليس مجرد قضية بيئية، بل معركة وعي وكرامة وطنية. فإما أن تتنفس قابس، أو تختنق ضمائرنا معها.

لقراءة النسخة الإنجليزية، اضغط هنا.

0 Shares