٩ جمادى الآخرة ١٤٤٥ هـ الموافق ٢٣ كانون الأول ٢٠٢٣ م
نهج البلاغة ـ الإمام علي (عليه السلام): (مَنْ ضَيَّعَه الأَقْرَبُ أُتِيحَ لَه الأَبْعَدُ).
هذه الجملة القصيرة حكمة بالغة، حكمة دستورية نافعة، ترسل شعاعها عبر الزمن لتخلد في ضمائر حوت من العلم حتى صارت خاشعة، وللكلمة في عالم المداليل عدة اتجاهات:
١ـ الضياع الأسري: من ضيعته أسرته واهملته وهو يستحق العناية وفّر الله تعالى من يعتني به.
٢ـ الضياع الوطني: من ضيّعه وطنه، سيجد الوطن الذي يحتفي به، ويصبح من أعلامه ورجاله.
٣ـ الضياع المؤسسي: من ضيّعته مؤسسته أو دائرته أو وظيفته، سيجد من يعتني به ويهتم لأمره ويأخذ بيده.
يمكن القول: أن الإنسان الكفوء أو المخلص أو العامل في حال لم يجد العناية أو الاهتمام من الأقرب، سواء كان هذا الأقرب (أسرة ، عشيرة ، مؤسسة ، وطن) سيجد الأبعد الذي هو خارج هذه التصنيفات ويعتني به ويتولى أمره، وشواهد الحياة عبر تاريخ الإنسان وحاضره خير شاهد على ذلك.
*ـ الرسالة: علينا أن نهتم بالأقرب قبل أن يهتم به الأبعد، وهذا استحقاق لا يمكن المناص منه، وتلك حقيقة راسخة في الوجود، سواء غفلنا عنها أم انتبهنا لها.
وكأنّ الأمير (عليه السلام) يحاكي ـ المظلوم ، المقهور ـ الوحيد ـ الغريب ـ ويربط على قلبه، بأن الله تعالى سيسخّر له من يهتم به، وفي الوقت نفسه يعاتب المهمل بأنّ اهمالك للأقرب سيضيّعه منك ويقع بيد غيرك، وربما يندم المهمل حين يرى من كان واجبه العناية صار عند غيره، ولا يلومنّ المرء غيره حين يهمله، بل يلوم نفسه لمّا يفرط بالآخرين، فكل نفس محترمة عزيزة عند الله تعالى يوفّر لها الموقع المناسب والعناية بلطفه وكرمه، وهذا من شأن ربوبيته بخلقه.
*ـ الحق، أنّ هذه الكلمة تعد من أعظم الكلام البشري وأعلى ما يمكن أن ينطقه الإنسان في اختصار مفاهيم الحياة، لو اتيح للمرء أن يتحدث عنها لما توقف فهي بمداليلها المتشابكة تؤتي وفرة من المعاني، وبأسلوبها الجزل تسحر المتأمل، وكأن شواهد الحياة تتناثر أمام العين حين تقرأ وتكرر بنفسك من ضيعه الأقرب أُتيح له الأبعد.