الحَرَاكُ الاستشرافي في منهجيّة الإمام الحسن العسكري عليه السلام فكراً وعملًا

الصّورة: ليث الموسوي/ شبكة الكفيل العالمية

سماحة الشيخ مرتضى علي الحليّ

٧ ربيع الأول ١٤٤٧ هـ الموافق ٣١ آب ٢٠٢٥ م

١- إنّ المتتبّع لسيرة الإمام العسكري دراسةً وبحثا يجده قد اعتمد في منهجيّته الخاصة آنذاك على تأصيل نظرية بناء القادة الفاضلين في مختلف مجالات الحياة الاجتماعيّة والإدارية والفقهية والسياسيّة والرساليّة كتأمين ذاتي وغيري لحفظ مستقبل الإنسان نفسه او ما يعنيه بصورة عامةٍ.

وحاول (عليه السلام) ترسيخ هذه النظرية في أذهان أتباعه المُخلصين وفي نفوس الناس عامة.

وفي الروايات الواردة عنه ما يثبت ذلك، كما في قوله لبعض بني أسباط (الناس طبقات والمُستبصر على سبيل نجاة ومتمسّك بالحقّ متعلّق بفرع أصيل ، غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ… وكذلك في قوله أيضًا: أحسن رعايةَ مَن استرعيتَ وإيّاك والإذاعة وطلب الرئاسة فإنّهما يدعوان إلى الهلكة) (١)

٢- كان (عليه السلام) يركّز على ضرورة تحقيق البعد الروحي والعبودي المخلص في شخصيّة الإنسان المؤمن القائد الفاضل واستشعار رقابة الله تبارك وتعالى في حراكه الشخصي والأسري والاجتماعي والتدبيري علانيةً وسرّا – .

وفي رواية مشهورة عن أحد أصحابه، وهو أبو هاشم أنّ بعض مواليه يسأله أن يعلّمه دعاءً، فكتب (عليه السلام) إليه هذا الدعاء، والذي يركز على بعد استشعار رقابة الله سبحانه لعباده ومحاسبته بدقة (يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أعزّ الناظرين، ويا أسرع المحاسبين، يا أرحم الراحمين، (صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ) وأوسع لي في رزقي ومدّ لي في عمري، وأمنن علي برحمتك واجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري) – ثم قال أبو هاشم: فقلتُ في نفسي اللّهمّ اجعلني في حزبك وفي زمرتك – فأقبل عليّ أبو محمد الإمام العسكري (عليه السلام) فقال:

(أنتَ في حزبه وفي زمرته إذا كنتَ بالله مؤمنًا ولرسوله مصدّقا ولأوليائه عارفا ولهم تابعا فأبشر ثُمّ أبشر) (٢).

وهذه المقاطع الروائيّة القيّمة تقدّم لنا معالمَ بناء الإنسان الرسالي الفاضل بناءً عقائديّاً مكيناً يبتني على سلامة المعرفة الدّينية الصحيحة بأصول الدّين الحقّة ، والتي تتطلّب معرفة المعصومين (عليهم السلام) واتّباعهم صدقاً وطريقًا.

٣- أهمّية الوثوق اليقيني بمعرفة الأئمة الأطهار والأخذ منهم منهجاً وسلوكا هادياً ومُنجيا –

ثمة رؤى قويمة يُقدّمها (عليه السلام) لاتباعه المخلصين العاملين الفاعلين في حراكهم الرسالي والإصلاحي – تظهر في كلمات قصيرة عميقة المضمون ودقيقة المعنى، حيث قال: (ونحن كهفُ من التجأ إلينا، ونورٌ لمن استبصر بنا وعصمةٌ لمن اعتصم بنا، مَن أحبّنا كان معنا في السنام الأعلى ومن انحرف عنّا فإلى النار )(٣).

وهذه الرؤى السديدة تُمثّل مدى اهتمام الإمام العسكري (عليه السلام) ببلورة نظرية بناء الإنسان الفاضل القائد في شتّى حراكه وخصوصاً ثقافته ووعيه وسلوكه .

٤- تأمين سلامة الفكر والثقافة في الانتماء والمواجهة – ففي وقته (عليه السلام) انفتحت جبهات فكرية وجدليّة استهدفت منظومة الدين الإسلامي عقيدةً وشريعةً وتنظيرا، فعمل الإمام العسكري (عليه السلام) جاهداً لتقوية وصمود أتباعه في خندق الفكر والحوار والدفاع حفاظاً على رسالة الله تعالى في كتابه القرآن الكريم والذي كان المُستهدف الأوّل في هذه الجبهة كما في ما أثاره الفيلسوف الشهير المعروف بالكندي في عصره في كتابه متناقضات القرآن – حيث تمكّن الإمام العسكري من تفنيد مزاعم الكندي (٤).

٥- التمهيد لغيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) والذي كان حراك بناء الإنسان القائد الفاضل يصبّ فيه فكراً وتطبيقا سواءٌ على مستوى إيجاد العلماء الفقهاء الثقات القادرين على تحمل المسؤوليّات الاعتقادية والفقهية والاجتماعية والفكرية والثقافية أو على مستوى غيرهم من عامة المؤمنين الرساليين العاملين.

وقد وجّه (عليه السلام) فعلاً أنظار أتباعه إلى الاعتماد على الثقات من الفقهاء في وقته والأخذ منهم وعيّنهم اسماً ووصفًا، كما في قوله: (عليه السلام) (العَمْريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان) (٥).

والروايات في هذا المجال كثيرة أعرضنا عن ذكرها اختصارًا.

وهذا التمهيد الجزئي للغيبة جاء بهدف تقبّل الغيبة الكبرى بعد ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وحجبه تمامًا عن الأنظار حفاظًا على شخصه من القتل، وقد أظهره (عليه السلام) لخلّص خواصه تعزيزًا ليقينيّة ولادته المباركة وإفهاماً لأتباعه بضرورة وعي خطورة المرحلة والمشروع وتحفيزًا لهم بالإيمان بالغيبة والتي هي خيار إلهي وحكمة ربّانية يجب التسليم بها – من أجل إدامة الدين وشريعته بوجود إمام معصوم حيّ باقٍ إلى آخر الزمان وحتى الظهور والقيام بالحق لبسط العدل والقضاء على الظلم والفساد.

مرتضى علي الحلّي – النجف الأشرف.


١- بحار الأنوار ،المجلسي ، ج٥٠ ، ص ٢٩٦- ٢٩٧.

٢- بحار الأنوار ، المجلسي ،ج٥٠ ، ص ٢٩٨.

٣- المناقب ، ابن شهر آشوب ، ج٤ ، ص ٤٣٥.

٤- انظر – الاحتجاج ، الطبرسي ، ج٢ ، ص ٥٠.

٥- الكافي، الكليني ،ج١، ص ٧٧.

تم إعادة نشر هذا النّص من قناة الإرشاد الثّقافي المُلتزم للأفراد والأسرة والمُجتمع في التّيليجرام.

0 Shares