٢٦ ربيع الآخر ١٤٤٥هـ الموافق ١١ تشرين الثاني ٢٠٢٣ م
بين النكبة والنكسة وما بعدهما من نكتة اسمها التطبيع، تقلصت أرض فلسطين وتشرّد أهلها في شتات لا يحملون معهم سوى مفتاح عن ذكرى بيت وحلم بالعودة، شعب تمسك بأرضه وهو يقصف ويقتل، شعب قاوم لسبعة عقود تنقل من الحجارة إلى الصاروخ، وسلسلة القتل الهمجي التي تستهدفه مستمرة بإصرار المحتل على الإبادة وسكوت العالم عما يحدث، لكنّ صوتاً من النجف الأشرف كان مناصرًا للقضية وحاضرًا في كل حدث، مساندًا للشعب الفلسطيني في كل خطوة، ولم ينفك صاحبه عن متابعة كل ما يحدث على امتداد الخريطة من غزة حتى جنين، إنه صوت المرجع الديني الأعلى سماحة السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه الوارف).
سلسلة المواقف
لم يقف المرجع الدينيّ الأعلى سماحة السيّد علي الحُسيني السيستاني (دام ظلّه الوارف) موقف المستنكر العابر إزاء القضية الفلسطينيّة، بل عايشها بكل ما فيها من تفاصيل وانتهاكات تعرّض لها أصحاب الأرض على أيدِ المحتلين، فبيانات سماحته واكبت كل الأحداث التي مرّت على الشعب الفلسطيني ووقف مدافعًا عنه، وأدناه بعض المواقف التي سجلت لسماحته:
في الثالث من شهر نيسان من العام ٢٠٠٢ قام الاحتلال الصهيوني بمجزرة في مخيم جنين، إذ توغلت القوات المحتلة داخل المخيم وبدأت بالقتل العشوائي، والاعتقال التعسفي والتعذيب ومنع إسعاف الجرحى، وذلك خلال اجتياحها للضفة الغربية للقضاء على المقاومين، وراح ضحية المجزرة (٦٣) شهيدًا والمئات من الجرحى، إلى جانب الآلاف من المعتقلين، فصدر عن المرجعية العليا بيانا حول هذه الأحداث دون أن تكتفي فيه بإدانة الجريمة، بل ضمّنته دعوة إلى المسلمين لأن “يقفوا مع إخوانهم وأخواتهم في فلسطين العزيزة ويرصوا صفوفهم ويجندوا طاقاتهم في الدفاع عنهم ووقف العدوان عليهم”، مضيفة بالقول أنه “يقتضي أن لا يهنأ المسلمون في مطعم أو مشرب إلى أن يكفوا عن إخوانهم وأخواتهم أيدي الظالمين المعتدين”.
بعد اغتيال مؤسّس حركة حماس الفلسطينية الشيخ أحمد ياسين، في ٢٢ آذار من العام ٢٠٠٤ في مسجد المجمع الإسلامي، بثلاثة صواريخ أطلقت من مروحية أباتشي إسرائيلية، أصدر مكتب سماحة السيد السيستاني بيانًا يستنكر فيه حادثة الاغتيال، ويؤبن الشيخ الشهيد العالم، جاء فيه: “في صباح هذا اليوم وفي جريمة بشعة ارتكبها الكيان الصهيوني المحتل فقد الشعب الفلسطيني المظلوم أحد رجاله الأبطال، العالم الشهيد الشيخ أحمد ياسين تغمّده الله بواسع رحمته، الذي كرّس حياته لخدمة وطنه ودينه، وأصبح مثالًا يحتذى به في الصبر والمقاومة”.
في عام ٢٠٠٣ استغل الكيان الصهيوني فوضى الاحتلال الأمريكي للعراق، للتوسع في البلد والتغلغل في عدد من المشروعات الاقتصادية، عبر شراء الأراضي والمراكز التجارية، وشعوراً من المؤمنين بخطورة هذا الأمر رد السيد السيستاني على استفتاء حول الموضوع، مؤكدًا بأنه “لا يجوز البيع والثمن سحت”، ليكون موقف المرجعية الدينيا العليا مانعًا أمام الوسائل الملتوية التي أراد بها الصهاينة استغلال أوضاع العراق الأمنية للتمدد والتغلغل وايجاد موطئ قدم لهم مستقبلًا؛ وذلك عبر تملّك العقارات والأراضي في المدن المهمّة.
حول أوضاع اللاجئين الفلسطينين في العراق التي تأثرت بالاحتلال الأمريكي عام ٢٠٠٣، وتعرّضهم للمضايقات، ممّا دعا وزير شؤون اللاجئين في السلطة الفلسطينية عاطف عدوان أن يتقدم برسالة إلى سماحة السيد السيستاني بتاريخ ١٩/ ٤/ ٢٠٠٦، يناشده فيها بإصدار تصريح أو فتوى تمنع التعرّض للفلسطينيين ولممتلكاتهم في العراق، معربًا عن ثقته بموقف المرجعية العليا، لتأتي بعدها رسالة جوابية من مكتب السيد السيستاني للوزير الفلسطيني جاء فيها: إن سماحته أكّد مرارًا وتكرارًا على لزوم رعاية حقوق إخوتنا اللاجئين الفلسطينيين، وعدم التعرّض لهم بالأذى، وقد أجرى مكتب سماحته اتصالات بالجهات الرسمية ذات العلاقة، لحثّهم على توفير الحماية لهم ومنع الاعتداء عليهم، وسنواصل العمل في هذا الاتجاه.
تعليقًا على قرار الولايات المتحدة الاعتراف بمدينة القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، صرّح مصدرٌ مسؤول في مكتب السيد السيستاني في النجف الأشرف، أن هذا القرار مدان ومستنكر، وقد أساء إلى مشاعر مئات الملايين من العرب والمسلمين، ولكنه لن يغير من حقيقة أن القدس أرض محتلة، يجب أن تعود إلى سيادة أصحابها الفلسطينيين مهما طال الزمن، ولا بدّ أن تتضافر جهود الأمّة وتتّحد كلمتها في هذا السبيل.
أصدر مكتب سماحته في العام ٢٠٠٨ بياناً يدين فيه الاعتداء على غزة، أكد فيه أن “تعابير الإدانة والاستنكار لما يجري على إخواننا الفلسطينيين في غزة والتضامن معهم بالألفاظ والكلمات لا تعني شيئا أمام حجم المأساة المروعة التي يتعرضون لها”، مضيفا أن “الأمتين العربية والإسلامية مطالبتان أزيد من أي وقت مضى باتخاذ مواقف عملية في سبيل وقف هذا العدوان المتواصل وكسر الحصار الظالم المفروض على هذا الشعب الأبي”.
في السادس من آذار ٢٠٢١ كانت القضية الفلسطينية حاضرة في أثناء لقاء سماحة السيد السيستاني بالبابا فرنسيس بابا الفاتيكان، جاء في البيان الصادر حول هذا اللقاء ما يشير إلى اهتمام السيد المرجع بهذه القضية، وتحدّث سماحة السيد عمّا يعانيه الكثيرون في مختلف البلدان من الظلم والقهر والفقر والاضطهاد الديني والفكري، وكبت الحريات الأساسية وغياب العدالة الاجتماعية، وخصوصاً ما يعاني منه العديد من شعوب منطقتنا من حروب وأعمال عنف وحصار اقتصادي وعمليات تهجير وغيرها، لا سيما الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة.
بتاريخ ٣١/ ١/ ٢٠٢١ أدانت المرجعية الدينية الخُطَّة الظالمة التي كُشف عنها، لإضفاء (الشرعية) على احتلال مزيد من الأراضي الفلسطينية المغتصبة، وجاء في نص البيان الذي ألقي في صلاة الجمعة بكربلاء المقدسة “انّ المرجعية الدينية تدين بشدة الخطة الظالمة التي كُشف عنها مؤخراً لإضفاء (الشرعية) على احتلال مزيد من الأراضي الفلسطينية المغتصبة، وهي تؤكد وقوفها مع الشعب الفلسطيني المظلوم في تمسكه بحقه في استعادة أراضيه المحتلة وإقامة دولته المستقلة، وتدعو العرب والمسلمين وجميع أحرار العالم إلى مساندته في ذلك”.
في ١٢/ ٥/ ٢٠٢١ أصدر مكتب سماحته بيانًا حول المواجهات التي جرت في فلسطين المحتلة، جاء فيه: إن المرجعية الدينية تؤكد -مرة أخرى- مساندتها القاطعة للشعب الفلسطيني الأبيّ في مقاومته الباسلة للمحتلين، الذين يسعون إلى قضم المزيد من أراضيه وتهجيره من أجزاء أخرى من القدس الشريف، وتدعو الشعوب الحرة إلى دعمه ونصرته في استرجاع حقوقه المسلوبة.
يرى متابعون أنّ المرجعية الدينية تولى أهمية خاصة للقضية الفلسطينية، لكونها قضية إسلامية وإنسانية، رغْم محاولة أميركا والغرب، حذفها من ذاكرة العرب والمسلمين.
وتلخص هذه المواقف رؤية السيد السيستاني للقضية الفلسطينية، من حيث إيمان سماحته بقداسة هذه القضية وأولويتها، وهي رؤية لا تختلف عن المسار الذي اتخذته المرجعية العليا في الدفاع عن حياض المسلمين وقضاياهم المحقة، انطلاقاً من مبادئ التسامح والوحدة ونبذ الطائفية والتطرّف.
إزالة الكيان الغاصب هو الحل
وخلال الحرب المستمرة على قطاع غزة، أكّد السيد السيستاني في بيانٍ أصدره مكتبه يوم (١١/ ١٠/ ٢٠٢٣ م) أنّ إنهاء مأساة هذا الشعب الكريم -المستمرة منذ سبعة عقود- بنيله لحقوقه المشروعة وإزالة الاحتلال عن أراضيه المغتصبة، هو السبيل الوحيد لإحلال الأمن والسلام في هذه المنطقة، ومن دون ذلك فستستمر مقاومة المعتدين وتبقى دوّامة العنف تحصد مزيدًا من الأرواح البريئة.
يقول مراقبون إن بيان السيد السيستاني “لخّص القضية الفلسطينية بمفردة واحدة هي “إزالة الاحتلال”، وجاء في غاية المسؤولية والرصانة ويتجلّى ذلك عبر استثمار الحدث بزمنه الخاص، إلى القضية الأكبر، تلك هي قضية (فلسطين) بجوهرها، فإذا كان مستهلّ البيان هو (غزة) بما تتعرّض له من عدوان بشع مستهتر، فإن الخاتمة تخطت هذه البداية بمساحة عريضة، عميقة، تلك هي قضية الاحتلال، ليس احتلال غزة، ولا القدس، ولا الضفة الغربية ولا الجليل ولا أي جزء من أجزاء فلسطين، بل احتلال فلسطين التاريخ والأرض والزمن، وإذا كان حق الشعب الفلسطيني في استرجاع أرضه يكمن وراء صياغة هذا الموقف المرجعيّ، الداعي إلى مغادرة الاحتلال أرض شعبنا العربي الفلسطيني، فإن سلام العالم خاصة هذه المنطقة يتطلبان خروج المحتل من الوطن السليب كاملًا ودون قيد أو شرط”.